دي مستورا لا يريد حلب
ليست مهمة المبعوث الأممي المشترك الخاص بسوريا ستيفان دي مستورا سوى حقل من الألغام. أوحت في بداياتها أنها لن تكون سوى تسويف وانتظار للتغيرات الطارئة القادمة التي حظيت مهمته بالحصة الأعظم منها (انفلاش القوة الداعشية، ثم التكتل الدولي في مواجهتها). لكنه برغم ذلك يتحلى بالواقعية والدأب اللذين جعلا مهمته محط أنظار منذ باشر مهامه وافتتح مكتباً آخر لعمله في دمشق هذه المرة لا في جنيف وحدها.
كان اللقاء الوحيد الذي حضرته في مكتبه بدمشق مثيراً للاهتمام، إذ لا يبدو دي مستورا مهتماً حتى الآن بالأضواء الإعلامية والمؤتمرات الصحافية، وما زال ينقب في فضاءات الممكن السياسي وارتباطاته على الأرض. وخرجت من اللقاء محملاً بثلاث أفكار رئيسية أهمها أن أرضية 2012 لم تعد صالحة لإعادة إنتاجها واستجرارها، وإن لم نقم بمجاراة العام 2014 والتفكير على أساسه، فلا وجود لحل على الإطلاق.
على عكس سلفه الأخضر الابراهيمي، أبدى دي مستورا اهتماماً أكبر بالملفات المحلية العالقة التي أهملتها الأمم المتحدة. يتلخص جزء من هذا الإهمال الضخم في مهمة الابراهيمي نفسها وظروف تشكلها: لا فريق على الأرض السورية، ما من مراقبين ولا مشرفين مدنيين أو عسكريين، وما من قدرة حتى على الضغط باتجاه التعاون مع الأمم المتحدة في أبسط مهماتها غير التنفيذية: دخول لجنة تقصي الحقائق المستقلة الخاصة بسوريا والتابعة للأمم المتحدة.
وبعد أكثر من عامين على تصاعد أصوات المجموعات المدنية السورية التي تطالب بمشاركة حل «من أسفل لأعلى» مع الحل السياسي، يحاول دي مستورا الآن جس نبض هذه الحيثيات، ومشاركتها مع حل سياسي ما قد يلوح في الأفق. صحيح أن هذا الحل السياسي غير ناجز حالياً – بل هو أقرب إلى ألا يكون موجوداً على الإطلاق – لكن هذا لا يمنع من استجماع تفاصيل ما هو ممكن، فهو برغم كل شيء لم يطرح مبادرة بعد، وكل ما يقوم به هو إلقاء بعض الأفكار من حين لآخر، ليتلقفها الإعلام ومراكز صناعة القرار ومراكز الأبحاث ويصنع كل منهم مواده الدسمة على أساسها.
ثمة ملامح تشي بجدية ما يريد أن يكرسه دي مستورا، وهو حل سياسي بعيد يحتاج لتشكيل أرضية أكثر صلابة لاستدامته. وهو بالتالي ليس في عجالة لصياغة حل محلي ناجز بكل ما فيه الآن للانتقال إلى حل سياسي أشمل، ولا هو يسير على خطى سلفه الابراهيمي الذي كان يسعى إلى العكس (حل سياسي شامل على طاولة مفاوضات دولية قبل الحديث عن أي تفصيل على الأرض). ما يقوم به الآن هو أقرب لتجهيز الأرضية المناسبة في كلتا المساحتين، وهو يراوح جيئة وذهابا لاستكشاف مدى تعاون كل جهة على حدة.
من هنا، فإن «فكرة تجميد النزاع» ليست مجرد خطوة في حل ناجز جاهز ببرنامج يغطي سنوات طويلة من عكس الأزمة أو حلها أو الخروج منها، بقدر ما هو خطوة أولى أساسية لإقناع كثير من الأطراف بإمكانية المضي في الحل قدماً، خصوصاً أن «مجموعة لندن 11» (أو «دول أصدقاء سوريا») لا تملك أي قناعة لاستثمار أموالها في حلول السلام على الأرض، ما لم تجد نموذجاً يمكن البناء عليه.
أمام دي مستورا عدد من النماذج التي يمكن البناء عليها كنقطة انطلاق، لتقييم التجربة ثم تعميمها وبناء المزيد عليها. لكن المؤكد أن حلب ليست إحدى هذه النماذج على الإطلاق. فهي الحلقة الأكثر تعقيداً على الأرض، والتي يتناحر فيها أكبر عدد من القوى المحلية والإقليمية والدولية، إلى درجة يصعب معها إنجاز أي تقدم حقيقي غير قابل للكسر. ولا يتفق ذلك مع واقعية دي مستورا ولا فهمه لطبيعة المسألة. حلب ساحة كبيرة وضخمة، ومن البديهي أن تهدئتها ستكون الأكثر تأثيراً في الأرض السورية. لكن ما هو بسيط وواضح وقابل للتطبيق أهم بكثير من المعقد والصعب الذي لا يمكن تطبيقه.
لا توجد صيغة معلنة لما يطرحه دي مستورا الآن، لكن المؤكد هو أنه لا يفكر بمنطقة هنا أو هناك، بل يفكر بسلسلة من الإنجازات التي تسهل محطاته اللاحقة. لعله اختار أن يلقي بالمنطقة الأكثر خطراً وتعقيداً كطعم سياسي وإعلامي، ليبحث آخر حدود الممكن في التفاوض على كل ما هو دونها. إذا كان ثمة تعاون واتفاق جزئي بشأن العمل على حلب، فعندها لن تكون الزبداني أو الغوطة الشرقية مثلاً إلا أوراقاً سهلة بالمقارنة معها. ثمة مناطق تضم تكتلات عسكرية واضحة بقيادات معروفة وحدود أكثر برودة، وهي قادرة على تقديم نماذج عملية وواقعية. ولن يكون من المنطق في شيء الابتعاد عنها نحو مساحة متأزمة ومنذرة بالفشل الذريع، إلا إذا كان دي مستورا لا يريد حلب أساساً، على الأقل ليس الآن.
نائل حريري
المصدر : السفير