بين التفاوض السلمىِّ والوعى الاجتماعى
المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان
لم يكن تغيير سلطة قائمة، مهما كان فشلها ومقدار الدمار الذى ألحقته بمجتمعاتها، أمرا سهلا فى أيّ يومٍ من الأيّام. ومهما كان نظام الحكم الذى تعتمده تلك السلطة صوريّا للهيمنة على هذا المجتمع وعلى دولته. فكّلما ظهر فشلها وآثاره جليّا، زادت شراستها فى استخدام آليّات مؤسّسات الدولة لقمع مجتمعها واستغلال أمراض المجتمع ذاته لدفعه إلى «قوقعة فئويّة» وتوظيف علاقاتها الخارجيّة لتثبيت موقعها. وبالتالى تتحدّى أيّة إمكانيّة لتفاوض سلميّ يُمكن أن يُنهى استئثارها بالسلطة «إلى الأبد».
لا يحتاج الأمر الكثير من البراهين لتوضيح فشل السلطة القائمة فى سوريا، مهما كان حجم المؤامرات الخارجيّة التى تعرّضت لها البلاد. فهذه المؤامرات والتدخّلات ليست جديدة فى التاريخ السوريّ. إنّ السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التى تمّ اعتمادها خاصّة منذ العام 2000، فضلا عن قمع الحدّ الأدنى من الحريّات، هى التى صنعت أرضيّة التفجّر الاجتماعى. بالمقابل استبدلت السلطة التعامل السياسيّ فى مواجهة الانتفاضة الشعبيّة بالحلّ الأمنيّ «المجنون»، أى زجّ جيش البلاد فى صراعٍ ضدّ المجتمع. وما أدّى إلى انقسام الاثنين على بعضهما البعض.
لم تجرؤ السلطة على التفاوض السياسيّ المباشر حين كان ذلك ممكنا، أى بالتحديد فى صيف 2011. آنذاك رفض الرئيس الجلوس على طاولة «اللقاء التشاورى للحوار الوطنى السورى» الذى جرى فى مجمّع «صحارى» قرب دمشق، وضرب بمقرّرات اللقاء الذى رعاه نائبه عرض الحائط. ولم تردَع مبادرة المبعوث الأمميّ كوفى عنان بنقاطها الستّ السلطة عن الاستشراس فى حلّها الأمنىّ كى تذهب البلاد فى صيف 2012 إلى «الحرب الأهليّة» المفتوحة وتنفلت التنظيمات المتطرّفة وصولا لإنشاء «دويلاتها». لكنّ فرص التفاوض السياسيّ عادت واقعيّا منذ سنة 2015، إلاّ أنّ السلطة استهزأت بها، وما زالت تستهزئ، سواءً جرى هذا التفاوض مباشرةً فى جنيف أو فى موسكو، أو بشكلٍ غير مباشر.
لم يعُد وضع سوريا كثيرا اليوم عمّا كان عليه فى 2011، بالتزامن مع شرذمة البلاد وتواجد القواعد الأجنبيّة والانهيار الاقتصاديّ والمعيشيّ. كما تغيّرت الأوضاع الإقليميّة والدوليّة بشكلٍ كبير مؤخّرا. وهذا ما يجعل التساؤل عمّا إن كانت هناك إمكانيّة لحلّ سياسيّ مشروع، أى لحلٍّ على أساس التفاوض السياسيّ السلميّ؟
•••
يعتمد موقف السلطة السوريّة اليوم على شعورٍ تعمل على نشره مفاده أنّها «انتصرت». علما أنّ التدخّل العسكرى لروسيا الاتحاديّة وبشكلٍ أقلّ الولايات المتحدة هو الذى أدىّ إلى القضاء على دويلة «داعش» وأسّس للتوافقات الدوليّة على تجميد الأوضاع الميدانيّة على واقعها الحاليّ. هذا دون الاستخفاف بحجم التضحيات البشريّة التى دفعها السوريّون من أجل ذلك. لكنّ تدخّلات هذه الدول، وكذلك تركيا وإيران وغيرهما، تجعل هدف «إعادة توحيد البلاد» بعيدا عن الإمكان عبر الحلّ العسكريّ. فلا سبيل لذلك سوى عبر حلٍّ سياسيّ مقبول دوليّا يقوم على أسس قرار مجلس الأمن 2254.
إلاّ أنّ السلطة تُبدى انزعاجا شديدا عندما يتمّ الحديث، خاصّة من قبل روسيا الاتحاديّة، عن هذا القرار وعن تشكيل «هيئة حكم انتقاليّة جامعة تخوّل سلطات تنفيذيّة كاملة». فهذا يعنى القبول بتفاوض سورى مباشر معها لإنهاء احتكارها للسلطة. بالمقابل لا يزعجها كثيرا التفاوض الذى لا نهاية له فى جنيف على دستورٍ جديد، مع غياب القوى التى تهيمن على الشمال الشرقيّ، وتشرذم فريق «المعارضة» فى اللجنة الدستوريّة.
ما يدفع لهذا الانزعاج هو أنّ «السلطات التنفيذيّة الكاملة« تعنى، بين أمورٍ أخرى، قيادة مؤسّسات الدولة العسكريّة والأمنيّة، حيث لا بدّ من توحيد الجيش وإعادة تنظيمه وضبط الأمن فى كافّة المناطق ومكافحة التنظيمات المتطرّفة، وكذلك قيادة مؤسّسات العلاقات الخارجيّة، إذ لا بدّ من التعامل بعقلانيّة سياسيّة مع كافّة الدول المنخرطة فى الصراع وعلى الأرض السوريّة، وعلى الأخصّ إيران وتركيا.
فى هذا السياق، لا يشكّل التبدّل البطيء للمواقف الإقليميّة والدوليّة حول مقاطعة الدولة السوريّة والعقوبات الأحاديّة الجانب عليها «انتصارا» للسلطة بقدر ما يدلّ على تغيّر الأوضاع الإقليميّة والدوليّة، والقناعة التى باتت واضحة اليوم، حتّى فى الولايات المتحدة، أن سياسات القطيعة والعقوبات لا تؤدّى سوى إلى ترسيخ هيمنة السلطة القائمة ورفدها بالموارد الماليّة وتجويع الشعب ودفعه إلى الإحباط والهجرة. هذا بالإضافة إلى إظهار السلطة أنّ وصول أيّة مساعدة إنسانيّة خارجيّة يعنى انتصارا و«منّةً» منها على المواطنين والمواطنات.
بالمقابل، ما زالت السلطة السوريّة تقمع بشراسة أدنى الحريّات، وتستخدم مؤسّسات الدولة لقهر المجتمع، أفرادا ومجتمعات أو حتّى شركات اقتصاديّة. كما ما زالت تستغلّ أمراض المجتمع وزجّ فئاتٍ منه ضدّ أخرى. وترمى تداعيات سياساتها على خلفيّة مؤامرات الخارج وحدها، بما فيها القطيعة والعقوبات.
هكذا تُغيِّب السلطة عن جميع المواطنين، وعمّن التزموا، رغم كلّ شىء، بخدمة الدولة السوريّة وعمّن تخوّفوا من التنظيمات المتطرّفة وعمّن استهجنوا تبعيّة بعض أطياف المعارضة للقوى الخارجيّة، أنّ التفاوض السياسيّ هو تفاوضٌ فى الأساس معها كسلطة وكذلك مع الفئات الاجتماعيّة التى دعمتها، وذلك للانتقال بسوريا من حالتها الكارثيّة الحاليّة إلى النهوض والتعافى، إذ ليس تغيير السلطة هدفا بحدّ ذاته بقدر ما أنّ هدف أيّ مشروعٍ سياسيّ حقيقيّ هو خدمة المجتمع، كلّ المجتمع، والنهوض به من الفشل والدمار الذى ألحقته به السلطة القائمة. وخدمة المجتمع تعنى بين غيرها من الأمور إعادة توحيد البلاد وحريّة حركة الأفراد بين ربوعها وعودة النازحين والنازحات واللاجئين واللاجئات وتعويض حقوقهم وإعادة اللحمة ضمن الجيش وبينه وبين المجتمع وإنهاء العقوبات وعودة النشاط الاقتصادى والمصالحة الوطنيّة خاصّة عبر حلّ ملفّ آلاف المعتقلين والمختفين قسريّا.
•••
لا سبيل للخروج من الاستعصاء السوريّ سوى هذا التفاوض السياسيّ السلميّ. لكنّه يحتاج إلى تنامى الوعى لدى جميع فئات المجتمع، مهما كان موقفها الحالى من الأوضاع، أنّ لا سبيل لإلغاء الآخر فى بلدٍ مثل سوريا، ولا جدوى للاستقواء بالخارج، أيّا كان هذا الخارج. الوعى المجتمعيّ هو الكفيل فى خلق أرضيّة للتفاوض على انتقالٍ سياسيّ لا يكلّف البلاد مزيدا من الفشل والدمار. وهو الذى سيُلزِم الأطراف السوريّة على التفاوض، بما فيها السلطة القائمة.
بل حتّى وإن لم يحدث التغيير سريعا، قد يترتّب على خلفيّة التفاوض السياسيّ المنشود تحصين المجتمع ضدّ مزيدٍ من العبث بمقدّراته.
الكاتب: سمير العيطة – المصدر: بوابة الشروق