بعد سنوات من التهميش.. “الجولاني” يقدم خدماته لأبناء الأقليات الدينية في إدلب 

88

يسعى “الجولاني” زعيم هيئة تحرير الشام في إدلب، لتغيير سياسته المتبعة بما يخص أبناء الأقليات الدينية ضمن مناطق سيطرته كأبناء الديانة المسيحية والموحدون الدروز، وذلك في إطار سياسة هيئة تحرير الشام الجديدة لتلميع صورتها أمام المجتمع الدولي بهدف إعادة تصنيفها كجماعة غير “إرهابية”، مستغلة نجاحها في إدارة إدلب على خلاف فشل الفصائل الموالية لتركيا في إدارة المناطق التي يسيطرون عليها.
وأجرى “أبو محمد الجولاني” خلال الأيام القليلة الماضية زيارات للقرى التي يقطنها أبناء الأقليات الدينية وهي كل من منطقة “جبل السماق” أو ما يعرف باسم “جبل الدروز” في ريف إدلب الشمالي الذي يقطنه مدنيون من أبناء طائفة “الموحدون الدروز”، إصافة لزيارة أخرى لقريتي اليعقوبية والقنية بمنطقة جسر الشغور في ريف إدلب الغربي وهي قرى تقطنها أعداد قليلة جداً من أبناء “الديانة المسيحية”، والتقى بوجهاء وأعيان هذه القرى لتقديم الخدمات وتحسين الظروف المعيشية، بعد سنوات من التهميش المتعمد الذي عاشته من قبل السلطات المحلية المتمثلة “بحكومة الإنقاذ” “الجناح التنفيذي القائم في مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام”.
وأثناء زيارة ” أبو محمد الجولاني” لمنطقة “جبل السماق” دشن بئر مياه لتغذية قرى الجبل، ونشرت وكالة إعلامية تابعة “لهيئة تحرير الشام” تسجيلاً مصوراً يظهر اجتماعاً ضم “الجولاني” برفقة عدد من المسؤولين والإداريين في “حكومة الإنقاذ” مع وجهاء قرى “جبل السماق”، حيث جرى مناقشة الأوضاع الإنسانية في المنطقة ومتطلبات السكان التي قوبلت بوعود من قبل “الجولاني” بالعمل على تنفيذها وتحسين الواقع الخدمي والمعيشي لهم، أما عن زيارته لقرى أبناء الديانة المسيحية شمال جسر الشغور في ريف إدلب الغربي، فلم يتم الكشف عن مشروع خدمي محدد سيتم تنفيذه في هذه القرى واكتفت المنصات الإعلامية التابعة “لهيئة تحرير الشام” بنشر تسجيلاً مصوراً وصوراً لاجتماع الجولاني مع أهالي القرى.
وعاش سكان مناطق الأقليات الدينية في إدلب معاناة كبيرة تمثلت بمصادرة ممتلكاتهم والتضييق على حريتهم الدينية ودفعهم للهجرة خارج مناطقهم، بعد أن بسطت فصائل المعارضة المسلحة والجماعات الجهادية السيطرة على المناطق، فالبنسبة للمسيحيين وبحسب مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد كانت أعدادهم بالآلاف في عام 2011 وحتى العام 2015 الذي شهد سيطرة فصائل ما كان يعرف باسم “جيش الفتح” على كامل محافظة إدلب وريفها مما تسبب بهجرة جماعية لآلاف المدنيين من أبناء الديانة المسيحية باتجاه مناطق سيطرة النظام السوري ودول عربية وأوروبية، وتقلصت أعدادهم بشكل كبير حيث باتت تتراوح حالياً ما بين 100 إلى 150 نسمة فقط موزعين على ثلاثة قرى رئيسية وهي “اليعقوبية” و”الجديدة” و”القنية” بمنطقة جسر الشغور في ريف إدلب الغربي، إضافة لعدد قليل منهم يقطنون داخل أحد أحياء مدينة إدلب.
ومع بداية سيطرة فصائل “الفتح المبين” في العام 2015 بدأت عمليات الاستيلاء ومصادرة الممتلكات والتي شملت منازل وأراضي زراعية ومحلات تجارية، فيما تمكن العديد من أبناء الديانة المسيحية ممن هاجروا ونزحوا من توكيل معارف لهم وأقارب في إدلب لتأجير عقاراتهم والاستفادة من عائداتها الشهرية والسنوية، لكن الأمر لم يدم طويلاً ففي العام 2018 وبعد أن تفردت “هيئة تحرير الشام” بالسيطرة على المناطق وأنهت تواجد العديد من الفصائل قامت بإلغاء “عقود التوكيل” ووضعت يدها على كامل ممتلكات أبناء الديانة المسيحية وأحدثت “حكومة الإنقاذ” حينها مكتباً تحت مسمى”مكتب أملاك النصارى” الذي بدأت من خلاله تأجير كامل العقارات المصادرة وأخذ عائداتها لصالح “هيئة تحرير الشام”.
أما عن أعداد المدنيين من أبناء الديانة المسيحية وتوزعهم الحالي في المنطقة وحجم الممتلكات المصادرة، فقد أفادت مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان، بأن قرية “اليعقوبية” وبحسب مصادر “المرصد السوري” الأخيرة فقد قُدر عدد سكانها في العام 2011 بنحو 1500 نسمة، بقي منهم 70 نسمة فقط، من سكانها الأصليين، ويبلغ عدد المنازل المصادرة فيها، بنحو 300 منزل، ونحو 40 محلاً تجارياً، وتبلغ مساحة الأراضي الزراعية المحيطة بها أكثر من 500 دونم، منها ما يقارب 200 دونم مزروعة بالأشجار المثمرة، ويستوطن في القرية حاليًا، نحو 200 عائلة من النازحين والمهجرين.
ويعرف عن قرية “اليعقوبية” تنوع محاصيلها الزراعية، فهي تشتهر منذ زمن طويل بزراعة أشجار الزيتون والرمان واللوز والتفاح، وكانت تعد وجهة الكثير من السياح من جميع المدن السورية والدول العربية، وكانت تشتهر بوجود كنيسة “آنا”.
أما قرية القنية، فقدر عدد سكانها في العام 2011 بنحو 2000 نسمة، بينما لا يتجاوز عددهم حاليًا 40 نسمة من كبار السن فقط، ويقدر عدد المنازل المصادرة فيها من قبل”تحرير الشام” بنحو 400 منزل، ونحو 100 محل تجاري، وتقدر مساحة الأراضي الزراعية فيها بنحو 700 دونم، منها ما يقارب 200 دونم من الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة، ويستوطن فيها حالياً نحو 500 عائلة من النازحين والمهجرين
كما تشير المصادر أيضاً، أن قرية” الجديدة” قدر عدد سكانها في العام 2011، نحو 1700 نسمة، بقي منهم نحو 10 أشخاص من كبار السن، ويقدر عدد المنازل المصادرة فيها من قبل”تحرير الشام” بنحو 350 منزل، إضافة لنحو 50 محل تجاري، وتقدر مساحة الأراضي الزراعية فيها بنحو 400 دونم ، منها ما يقارب 100 دونم من الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة، ويستوطن فيها حالياً قرابة 150 عائلة من النازحين والمهجرين.
ووفقاً للمصادر، فإن الأعداد القليلة المتبقية ضمن إدلب وريفها هم من أبناء الديانة “المسيحية الأرثوذوكسية” وغالبيتهم من كبار السن، كما وتحتوي القرى حالياً على مئات العائلات النازحة والمهجرة من مناطق مختلفة من سوريا فهذه القرى كانت وجهة للكثير من النازحين والمهجرين.
أما فيما يخص منطقة “جبل السماق” ( جبل الدروز) فهي عبارة عن سلسلة قرى تضم 12 قرية ويقع بالقرب من بلدة كفرتخاريم في ريف إدلب الشمالي ويقطن حالياً في الجبل ما يقارب 30 ألف نسمة ما بين سكان أصليين ونازحين ومهجرين، وقد شهدت قرى الجبل أيضاً حركة هجرة للكثير من أبناءه باتجاه تركيا ومناطق سيطرة النظام السوري إضافة للهجرة باتجاه دول عربية وأوروبية، وكان مصير العديد من العقارات العائدة ملكيتها لأبناء طائفة “الموحدون الدروز” مشابهاً لممتلكات أبناء الديانة المسيحية، حيث استولت عليها “هيئة تحرير الشام” وتقوم بتأجيرها والاستفادة من ريعها.
وقد عانت قرى الجبل كغيرها من مناطق الأقليات الدينية منذ بداية سيطرة “هيئة تحرير الشام” من التهميش وغياب الخدمات ويعاني سكانه الأصليون من الفقر الشديد، وتفتقر القرى لمعظم متطلبات الحياة من منشآت صحية وخدمية وتعليمية، كما وشهدت قرية “قلب لوزة” إحدى قرى “جبل السماق” مجزرة مروعة بتاريح شهر حزيران/ يونيو 2015 على يد عناصر “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً).
وبعد كل هذه السنوات من التهميش لمناطق المسيحيين والدروز في إدلب وريفها بدأت “هيئة تحرير الشام” بمحاولاتها لتلميع صورتها والاهتمام بهذه المناطق لتقنع المجتمع الدولي بأنها الجهة الوحيدة القادرة على حماية المكونات والأقليات في الشمال السوري، لذلك جرت الزيارات الأخير لمتزعم “هيئة تحرير الشام” “أبو محمد الجولاني”، ورغم كل التطمينات التي يقدمها في سبيل عودة من هاجر من أبناء الأقليات الدينية إلا أنه لم تسجل عودة لأحد منهم مؤخراً.
وعن أبرز الأسباب التي تمنع أبناء الأقليات الدينية من العودة لمناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” وعن مدى وجود بيئة مناسبة فعلياً لعودتهم يتحدث الناشط (م.أ) للمرصد السوري لحقوق الإنسان قائلاً، رغم أن هناك تحسن طفيف في طريقة تعاطي “هيئة تحرير الشام” مع الأقليات الدينية ومحاولة كسب ثقة المهجرين والنازحين منهم للعودة إلا أنه لا تزال هناك بعض الأسباب التي تمنع عودتهم، فتشكيلات “هيئة تحرير الشام” ليست على مبدأ واحد وهناك الكثير من المتشددين بين صفوفها الذين يمانعون التعامل مع الأقليات الدينية كباقي الشريحة الأوسع من المدنيين من  “المسلمين السنة” وهناك الكثير من القيادات عبروا عن رفضهم لما يتصرف به “الجولاني” وتخفيف حدة خطابه مع الأقليات.
ويضيف، وهناك سبب مهم جداً وهو سوء الأوضاع المعيشية والخدمية في هذه المناطق فلم يتم تخدمتها بعد بما يلزم من أجل عودة سكانها الأصليين فغالبية المناطق ولاسيما منطقة “جبل السماق” تعاني من عدم وجود عدد يكفي من المدارس والمراكز الصحية ولم نشهد مشاريع فعلية يتم العمل عليها كمشاريع الكهرباء والمياه وتعبيد الطرقات وغيرها، ومن ناحية أخرى فغالبية ممتلكات المدنيين من سكان هذه المناطق الأصليين يقطنها نازحون ومهجرون تم منحهم أو استجأروا المنازل من قبل “هيئة تحرير الشام” وهؤلاء يحتاجون لنقلهم لأماكن سكنية جاهزة لإفراغ المنازل التي يشغلونها.
ويلفت إلى وجود تخوف آخر وهو عدم منح أبناء الأقليات الدينية المهجرين والنازحين بحال عودتهم لمناطقهم “حرية الاعتقاد” والدين وممارسة طقوسهم وعاداتهم الدينية أو الإجتماعية الخاصة، وهذا يؤكد عدم وجود حرية دينية لمن بقي منهم حالياً، فحتى الآن يمنع على المسيحيين ضمن مدينة إدلب قرع أجراس كنيستهم الوحيدة (كنيسة العذراء) وأداء صلواتهم فيها، فضلاً عن الأنباء التي تفيد بتأجير جزء منها ليكون مركز تجاري لأحد التجار.
ويستبعد أن تشهد منطقة إدلب عودة قريبة لأبناء الأقليات الدينية لمناطقهم في ريف إدلب، وبغض النظر عن الأسباب آنفة الذكر فإنه من المؤكد أن الواقع المعيشي في الدول الخارجية أفضل بكثير من العودة لسورية فهم كباقي أبناء الشعب السوري اللاجئين في عدة دول الذين لا يفضل غالبيتهم العودة في ظل الأوضاع المعيشية الراهنة.
وطرأت تغيرات عديدة على طريقة تعاطي “هيئة تحرير الشام” مع المدنيين بشكل عام ضمن مناطق سيطرتها في إدلب وريفها شمال غربي سوريا، تمثلت بظهور متكرر لمتزعمها “أبو محمد الجولاني” بزي مدني وإجراء اللقاءات مع المدنيين ومشاركته في المناسبات الإجتماعية فضلاً عن إطلاق العديد من المشاريع الخدمية من تعبيد للطرقات الأساسية وافتتاح طريق حلب – باب الهوى، والمدينة الصناعية في منطقة باب الهوى، إضافة لتراجع حدة تعاملها مع المدنيين بما يخص ما كانت تسميها “مخالفات شرعية”، حيث بدأت تتدريجياً بغض الطرف عنها وتخفيف التضييق على المدنيين، كما وعملت خلال الآونة الأخيرة على تنظيم المؤسسات والملفات والجانب العسكري بما يشبه نظام الدولة وذلك كله يأتي في إطار محاولتها تلميع صورتها أمام المجتمع الدولي وإزالة تصنيفها كمنظمة “إرهابية”.
ويجدر بالذكر بأن مناطق إدلب وريفها شهدت مؤخراً العديد من عمليات القصف المدفعي والجوي من قبل قوات النظام السوري والمقاتلات الحربية الروسية متسببة بسقوط العديد من المدنيين بين شهيد وجريح وكان آخرها ارتكاب المقاتلات الحربية الروسية مجزرة مروعة في قرية “الجديدة” في ريف إدلب الغربي التي يقطنها أقلية من أبناء الديانة المسيحية حيث راح ضحيتها نحو سبعة شهداء و13 جريحاً غالبيتهم من الأطفال وذلك بعد يومين من زيارة “الجولاني” للقرية.