المرصد السوري لحقوق الإنسان: في رحيل غسان الجباعي.. حلم الحرية السوري الأزلي

71

لا شيء يمكنه أن يلخص سيرة غسان الجباعي المسرحي والأديب الذي رحل البارحة في دمشق، سوى اقتران تاريخ السوريين الحديث بالسجون! لقد كان اعتقاله بُعيد عودته إلى سوريا في العام 1982، أشبه بضربة سكين بترت غصناً نمت عليه أحلام وطموحات هائلة، بقيت في العتمة عقداً كاملاً تقريباً، فوهنت نبضاتها، وصارت مثقلة بهم الحرية، لا كشعار سياسي، بل كونها أساس الحياة.تنقّل غسان في سجون النظام، وقضى سنوات في معتقل تدمر الصحراوي الرهيب، ثم خرج في العام 1991، فصار كل شيء يفعله، يكتبه، أو يخرجه، أشبه برقصة دامية بين قوتي جذب؛ ذاكرة العتمة والحياة تحت الشمس.ضمن هذه المعادلة، سنفهم ما حدث مع الباحثة والكاتبة الأميركية، ميريام كوك، التي التقته خلال زيارتها لدمشق العام 1996. فبعدما سمعت منه بعض تفاصيل عن تجربته في البقاء لمدة عام في زنازين فرع التحقيق العسكري، توقفت في ساحة الجمارك قرب المعهد العالي للفنون المسرحية، لتخلع حذاءها، وتمشي حافية إلى بيتها بالمزة، وهي تصلّي، احتراماً للمعتقلين القابعين في أقبية نظام الاستبداد.كتب غسان عن تفاصيل هذه الواقعة، وعن لقائه بكوك التي اتصلت به إثر قراءتها مجموعته القصصية “أصابع الموز”، والتي نصحها المخرج السينمائي محمد ملص بقراءتها. فحدّثها عن المعتقلين السياسيين في سجون فروع المخابرات “التي تحتجز المعتقلين تحت الأرض بعشرين درجة. وأنه يجب علينا عندما نمشي في الشوارع أن نتذكر بأننا نمشي على رؤوس المعتقلين وأجسادهم”!
بعد عشر سنوات تقريباً، سيظهر غسان مع زميلَي السجن، الشاعر فرج بيرقدار والباحث ياسين الحاج صالح، في فيلم المخرجة والشاعرة هالا محمد “رحلة في الذاكرة”، وقد استقلوا سيارة تمضي بهم نحو معتقل تدمر، في لقطة طويلة ستترسخ في عقل السوريين، وهم يتداولون حديثاً قاتماً عن ذكرياتهم هناك. ومعرفة غسان الجباعي بشكل شخصي، تجعل تتبع مسارات حياته أشبه باستعادة مكثفة لوقائع الحياة السورية طيلة عقود.كانت مسرحية الإيطالي أوجو بتي، “جريمة في جزيرة الماعز”، المكتوبة في العام 1947، أول الأعمال التي قدّمها الجباعي على المسرح بعد خروجه من المعتقل. لقد اختار من أجل تقديم تصوراته الفنية، واحداً من أكثر النصوص المسرحية التي تناقش فكرة السيطرة والاستلاب، عن ثلاث نساء: زوجة مهجورة وأخت الزوج وإبنة، يعشن في جزيرة منعزلة، يعانين الوحدة والقهر ويمضين في علاقة ثلاثية مع الراعي، تنتهي بمقتله، في كناية عن وضع المجتمع الإيطالي الذي خرج من الحرب العالمية الثانية مدمراً، يبحث عن مستقبله ويُواجَه بالسياسيين الذين يمعنون في استغلاله وتدمير رغباته.لكن غسان الذي اشتغل مع ممثليه في هذا العرض، وكأنهم في مختبر يعيد صياغة التكوين الذاتي للشخصيات وفق إيقاع اللحظة السورية، بدا وكأنه يريد من العمل ما هو أبعد من مجرد سرد الحكاية البوليسية. فظهر العرض مشعاً، قابلاً للقراءات المتعددة والمكثفة التي تمضي في تأويلاتها حتى حدود حياة صانعه الشخصية، فيصبح العمل المسرحي مقترناً بتسمية جديدة، مسرحية المخرج الذي كان في المعتقل.(جزيرة الماعز)سيجد غسان مكانه الرصين في المشهدين الثقافي والفني السوريين بسرعة، رغم عوائق البيروقراطية القمعية التي ستجعله تحت المراقبة الدائمة، وتضع نصوصه ومشاريعه تحت مبضع الرقيب الأمني الباحث فيها عما يمكن له أن يهدد الدولة الأسدية. لكن هذا كله لم يمنعه من أن يماحك النظام، في غالبية ما كتبه وأخرجه، من دون أن ينسى تاريخه كممثل، فعمل مع مخرجين سينمائيين سوريين في أفلام عديدة. وفي سياق قراءة المنجز الكامل لغسان، سنعثر على عدد غير قليل من المؤلفات الأدبية التي كانت تمضي صوب منعرجات حياتية مختلفة، لكنها غالباً ما عادت إلى السجن بوصفه الذاكرة الأصلية، فيتكرر حضوره في كل ما قدّمه.ومنذ مجموعته القصصية الأولى “أصابع الموز” العام 1994، وحتى مجموعته الشعرية “أنام على حجر” (مخطوطة)، يظهر أنه من الصعوبة لا بل من المستحيل أن يخفت أثر وتأثير المعتقل في الذات البشرية.وحدها الثورة ستغير النبرة قليلاً، لكنها في الحالة السورية، لم تكن لتؤدي فعلياً إلى التغيير المنشود، بل إنها مضت لتكون مجزرة مستمرة، ستؤدي إلى زيادة جرعة القتامة التي تطغى بفلترها على ما كتبه غسان وصنعه خلال السنوات الماضية. فقال في مكان ما عن تجربته فيها: “أما عن دوري في هذه الثورة فلا دور يذكر لي في ظل الرصاص والقنابل والسكاكين. كان الموت أفضل من أن أرى السوريين يُقتلون بسلاح سوري، وحَواري دمشق تقصف من جبل قاسيون بالصواريخ السورية.. أنا لا أتقن مهنة القتل ولا أستطيع ممارستها. ومهنة الثقافة والفن مهنة ذهنية بلا عضلات ولا مخالب. ولذلك أكتفي بالتأمل والأمل، ويا لها من مهمة بائسة! لكني واثق من أن الشعب السوري سينتصر مهما طال الزمن ورغم كل المآسي والمصاعب والدم والدموع. سينتصر حلم السوريين أخيراً ببناء دولتهم المدنية الديموقراطية الحديثة، دولة القانون والعدل والمواطنة”…(عرض السلالم)كان غسان ممنوعاً من السفر منذ خروجه من المعتقل، لكن فرص الخروج من سوريا كانت متاحة له، وهو الشخصية البارزة والمعروفة، إلا أنه بقي في دمشق، كتب من بيته في المنابر القريبة من مشروعه الذي اختصره في نهاية المقطع السابق. فكان حاضراً -رغم خطورة الفعل- في غالبية المشاريع الثقافية المُعارضة، وتولى لفترة الإشراف على القسم الثقافي لموقع “جيرون”، وشارك في مسابقات رابطة الكتّاب السوريين الأدبية، فحصل على جائزتها (مشتركة مع جائزة المزرعة) عن رواية “قهوة الجنرال” الصادرة العام 2014. وصدرت له مؤلفات أخرى، أكّد عبرها على إلحاح فكرة الحرية على العقل السوري، فها هو يصوّر مشهد اعتقاله في رواية “حافظ الأسى”: ما لن أنساه أبداً أنني كنت في ثياب النوم.. حافياً. مقيّد اليدين.. مخفوراً بالحراس المسلحين، داخل سيارة “زيل” عسكرية، تقلني بصمت من حي ركن الدين إلى مكان مجهول في المدينة. كنت أسترق النظر من خلال كوة سيارة السجن المتحرك. كانت البنايات القرميدية العالية مطفأة كأعقاب السجائر في صحن الرماد، والأشجار التي تعبت من شد شعرها بيديها، تصطف طوابير طويلة أمام مقصلة الخريف الذهبية (…) دخلنا في متاهة الأزقة المتكاتفة، وفي النهاية توقفنا أمام باب كبير حديدي رمادي صدئ.. كانت جميع الأبواب الخارجية متشابهة: حديدية رمادية مبقعة بالصدأ ولها ثقب صغير.. وكان أهل الحي يعرفون ذلك الباب المحروس الذي لم يكن يستقبل إلا رجالاً بربطات عنق أنيقة وهويات سرية ومسدسات تحت الحزام (…) ما أن نزلت على ذلك السلم الحديدي في مؤخرة سيارة الزيل، حتى تجمع حولي رجال الشرطة العسكرية، وبدأ التهليل والتصفيق.. التصفيق ليس لي، بل على وجهي ورأسي ورقبتي “يا إخونجي يا عميل”.. شارك الجميع بالتصفيق والركل والضرب بالسياط من دون رحمة على رقبتي ورأسي وخاصرتي.. كان أي معتقل بالنسبة إليهم هو إخونجي عميل، حتى لو كان كافراً بجميع الديانات”.يتحدث غسان عن أمه الراحلة بمناسبة هذه الرواية، فيقول في إحدى حلقات سلسلة “حكايات المعتقل” المنشورة في موقع “المرصد السوري لحقوق الإنسان”: “عندما خرجتُ من المعتقل، قررتُ أن أكتب رواية عن أمي. كنت مُصرّاً على جعل عنوانها: حافظ الأسى، وفاء لذكرى أمي ونكاية بالخوف. لكن جميع المحبين والأصدقاء نصحوني أن أفكر في عنوان آخر. حتى دور النشر رفضت عنواني.. خافت هي أيضاً منه. وعندما اقترحت أن أضع، عوضاً عن اسمي، اسماً مستعاراً، رفضوا الاقتراح. كنت مقتنعاً بهذا العنوان لدرجة أني امتنعت عن نشر هذه الرواية ووضعتها في الدرج وأنا أردّد: كفى كذباً. إما أن تكون شاهداً حقيقياً على عصرك وتقول ما تراه وتقتنع به، أو أن تصمت. وصمتُّ. صمتاً طويلاً. لكن أمي التي أطلقت على الزعيم هذا اللقب وماتت منذ عشر سنوات، أطلّت عليّ تلك الليلة بشعرها الأبيض، أحضرت الفجر معها. شقّته بيديها الكثيرتين ودخلت عليّ فجأة، من دون أن تفتح الباب، وطلبت مني تغيير هذا العنوان. قالت: غَيّر العنوان يا غسان، واستعض عنه بثلاث نقاط على السطر.. ثم غابت..”.
(عرض السلالم)القراءة المعمقة في أحوال المعتقل وطريقة قهره على أيدي جلاوزة السجن، سيتحدث غسان عنها في أمكنة عديدة، أبرزها شهادته في ملف مجلة “أوراق” عن أدب الاعتقال، لكنه في مقابل هذا الإصرار على تذكير القارئ بما حصل دائماً في هذه البلاد المدمرة، استطاع أن يسرّب قصائد تحتوي دفقات عالية من العاطفة تتلاصق مع مشهديات غاية في الجمال، فيقول في قصيدة “أيها الجنرال الصغير” المكتوبة العام 2014:”عندما تنتهي الحرب سنعلّق هذه المدن المحروقةأوسمة على صدرك لا شجر فيها ولا عصافيرأيها الجنرال الصغيرعندما تنتهي الحرب تتحول الأرواح إلى نواقيس وصرخات النساء إلى أجراس تتأرجح في أذن الأرض عندما تنتهي الحرب تتحول أصابع المعتقلين إلى نايات وأصابع الأطفال إلى أقلام رصاص ومحّايات عندما تنتهي الحرب تتحول الأقنعة إلى وجوه والأحداق الشاخصةإلى قناديل تضيء دياجيرهذا العالم الموحش عندما تنتهي الحرب تتحول عظام الموتى إلى سلالم وسواعد الأحياء إلى رافعات ودموع الأمهات إلى غديرفإلى أي شيء ستتحول أنت أيها الجنرال الصغير.!؟”في رحيل غسان الجباعي، لا يمكن للسوريين الذين عرفوه أن ينسوا كل هذا الأسى الذي كان يلف روحه، لكنهم بالتأكيد سيتذكرون الدرس الأخلاقي الحياتي الذي صنعه كمثقف، لم يهادن القمع والديكتاتورية، وصنع في معركته ضدها كل ذلك الجمال.تعريف:غسان الجباعي (1952-2022) من مواليد القنيطرة، درس الإخراج المسرحي في مدينة كييف ونال الماجستير العام 1981. اعتُقل بتهمة الانتماء لحزب البعث الديموقراطي من العام 1982 إلى العام 1991. وبعد إطلاق سراحه، درّس في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق. وصدرت له عن وزارة الثقافة “أصابع الموز”(1994)، ومجموعة “ثلاث مسرحيات”(1995)، و”الوحل”(1999)، وديوان شعري بعنوان “رغوة الكلام”(2011). وبعد قيام الثورة السورية، نشر روايات “قهوة الجنرال” (2014)، و”المطخ”(2018)، و”قمل العانة”(2020)، إضافة إلى كتب “الثقافة والاستبداد”، و”الفن والثورة السورية” و”المسرح في حضرة العتمة”.أخرَج للمسرح القومي عدداً من المسرحيات، أبرزها “جزيرة الماعز” العام 1994، ومسرحية “أخلاق جديدة” العام 1998، و”سلالم” العام 2003، ومسرحية “السهروردي” لصالح مهرجان حلب عاصمة الثقافة الإسلامية العام 2007. كما أخرج للمسرح الوطني الفلسطيني مسرحية “الشقيقة” من تأليفه. شارك كذلك في كتابة بعض الأفلام السينمائية، وكتب للتلفزيون عدداً من الأعمال الدرامية والتاريخية.وشارك كممثل في عدد من الأفلام السينمائية الروائية. منها: “شيء ما يحترق” لغسان شميط، “الكومبارس”لنبيل المالح، “اللجاة” لرياض شيّا، “الترحال” لريمون بطرس، “سلم إلى دمشق” لمحمد ملص. كما شارك في الأفلام الوثائقية “فوق الرمل تحت الشمس” لمحمد ملص، “هؤلاء الآخرون” لسوسن دروزة، وفيلم “رحلة في الذاكرة” لهالا محمد.وكتب للدراما مسلسلات: “تل الرماد”، “قرن الماعز”، “عمر الخيام”، “بقايا صور”، “رمح النار” والفيلم التلفزيوني “طيارة من ورق”.

 

 

 

 

 

المصدر: INN LEBANON