الثورة السورية… عشرة أعوام تمرّ على البشر والحجر
لم تقتصر الجرائم التي ارتُكبت في سورية، سواء نفذها النظام بطائراته وبراميله ومدفعيته، أو التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها “داعش”، على قتل السوريين وتهجيرهم وسجنهم وتعذيبهم، بل طاولت كل شيء، حتى الحجارة، بما هي مدن أثرية جرى تدميرها ونهبها؛ فمن أقصى شمال البلاد إلى جنوبها، تعرّضت مدن أثرية إلى قصف وتحطيم، وسرقة ونهب، فالآثار التي تنجو من التحطيم والضياع، نراها في أسواق شتّى، تُباع وتُشترى. هنا، نقف عند هذه القطع النفيسة ومصائرها.
“لا أستطيع أن أتخيّل تدمر من دون قوس النصر الأثري، ومعبدي بعل شمين وبل. لي ذكرى على كل حجر من أحجار المدينة. التدمريون يرون الحجارة كما لا يراها بقية الناس”. يقول مخرج الأفلام الوثائقية القصيرة، وابن مدينة تدمر، دحام الأسعد، الذي غادر المدينة قبل سيطرة قوات النظام السوري عليها عام 2015، واستقر في الدنمارك، ليبدأ من هناك الكتابة في الصحف الغربية عن المدينة التي تعدّ واحداً من ستة مواقع سورية مدرجة على قائمة منظمة يونسكو للتراث العالمي.
يعمل دحام على إنتاج فيلم يوثّق ما تعرّضت له المدينة الواقعة شرقي حمص وسط سورية، من تدمير وسرقات منذ مايو/ أيار عام 2015. ويقول في حديث إلى “العربي الجديد” إن النظام السوري دمّر، إلى جانب “داعش” الإرهابي، نحو 25 بالمائة من آثار المدينة، وكان يقصف أوابدها إبان الهجوم عليها من عناصر “داعش”. وبعد أن تمكّن الأخير من فرض سيطرته عليها، دمّر أهم آثارها، واستغلّ ذلك لنشر إرهابه في العالم، عبر إبراز القوة من خلال تدمير مدينة من أهم مناطق العالم الأثرية. وأشار إلى أن من الآثار التي دمرها “داعش” هي واجهة المسرح الروماني، والتترابليون، وهو عبارة عن 16 عموداً متناسقة، تراه في كل صورة تنتشر للمدينة، على حد قوله.
“تدمر كانت حديقة ألعابنا، إذ لم يكن في المدينة أي حديقة ألعاب”، يقول الأسعد، ويشير خلال حديثه إلى أن النظام استعاد السيطرة على المدينة مرتين من “داعش”. وخلال المعارك التي شهدتها المدينة، هجرها معظم سكانها، وهنا استغلت قوات النظام والميليشيات التابعة له الفرصة وسرقت كثيراً من آثار المدينة: “هذه القوات حينها لم يكن لها رادع؛ لأن النظام أطلق يدها في كافة المجالات، والشيء الوحيد الذي أراده منها الإبقاء على سلطته”.
في هذا السياق، نتذكّر عالم الآثار السوري خالد الأسعد (1934 – 2015)، المدير السابق للآثار في مدينة تدمر، وكان قد أعدمه “داعش” وعرض جثته في وسط المدينة. قتُل الرجل لأنّه لم يتعاون، ولم يُعطِ أي معلومات حول كثير من كنوز المدينة الأثرية ومكانها، فأعدمه “داعش” متهماً إياه بـ”عبادة الأصنام”. كان أعضاء التنظيم الإرهابي يعتقدون بوجود طنّين من الذهب في مكان ما في المدينة. ولا يوجد طنّان من الذهب ولا أي شيء من هذا القبيل، لكنهم توهّموا ذلك، وأرادوا أي شيء من كنوز المدينة، لكن الأسعد لم يخبرهم بشيء، وحافظ على أسرار مدينته، فقطعوا رأسه.
تعرّضت مواقع أثرية في إدلب إلى هجمات تنقيب عشوائية ونهب
في عام 1988، عثر الأسعد على منحوتة “حسناء تدمر”، ومدفن أسرة بولحا بن نبو شوري، ومدفن أسرة زبد عته، ومدفن بورفا وبولحا، ومدفن طيبول. إلى جانب هذا كلّه، عمل في البعثة الوطنية الدائمة للتنقيب والترميم، إذ أعاد بناء أكثر من 400 عمود، إضافة إلى مجموعة معابد ومنصّات وأسوار، وغيرها الكثير.
لم يكن الأسعد ليترك كلّ هذه التنقيبات وما نتج عنها من اكتشافاتٍ من دون توثيق، إذ عمل على إعداد ونشر مجموعة من الدراسات والأبحاث حول تدمر وسورية وتاريخهما.
من هذه الأبحاث؛ “المنحوتات التدمرية”، الذي أعدّه مع آنا سادورسكا وعدنان البني، بالتعاون مع البعثة البولونية، وصدر عام 1994 بالفرنسية، و”الكتابات التدمرية واليونانية واللاتينية في متحف تدمر”، بالمشاركة مع ميشيل غافليكوفسكي، وصدر باللغة الإنكليزية عام 1997، و”دراسة أقمشة المحنّطات والمقالع التدمرية”، بالمشاركة مع أندرياس شميت كولينيه، وصدر بالألمانية عام 2000.
ومن أكثر المواقع الأثرية التي طاولها الخراب، مواقع محافظة إدلب الأثرية التي خرجت عن سيطرة النظام منذ بدايات اندلاع الثورة عام 2011. يقول مدير آثار إدلب، أيمن النابو، في حديث إلى “العربي الجديد”، إن 65 بالمائة من معالم المحافظة التي يزيد عددها عن الألف تعرّضت إلى القصف والتخريب والسرقة على يد قوات النظام، التي استهدفتها بكافة أنواع الأسلحة.
ويشير النابو إلى أن 760 موقعاً من هذه المواقع كانت مسجلة لدى النظام السوري، بينها 40 قرية أثرية اعتبرت متاحف في الهواء الطلق. وتشتهر المحافظة بمتحفين، أحدهما يعتبر ثاني أهم متحف في الشرق الأوسط، بعد متحف “زوغما” التركي، وهو متحف مدينة معرة النعمان الذي يحوي أكثر من 1000 متر من الفسيفساء، ومتحف مدينة إدلب الذي يحوي رقماً مسمارية تمّ اكتشافها في موقع إيبلا، وكلاهما تعرض إلى القصف من قبل طائرات النظام، وتضرّر بشكل كبير، إضافة إلى جامع المعرة الكبير الذي يعتبر ثالث أهم مسجد تاريخي في سورية.
ويؤكد النابو أن المواقع الأثرية في إدلب تعرّضت إلى هجمات تنقيب عشوائية، أسهمت في تغيير معالمها، وكان الهدف من هذه الهجمات البحث عن اللقى الأثرية واستخدام حجارتها في البناء، إضافة إلى الزحف العمراني، الذي امتدّ إلى هذه المواقع بعد حركات النزوح وزيادة الكثافة السكانية في المحافظة، وكانت من أكثر المواقع التي تضررت المواقع الأثرية الطينية، التي مُحي جزء كبير منها، ولم تعد موجودة أبداً.
ولفت إلى أن المديرية تعمل على تتبع القطع الأثرية التي يتم تهريبها إلى خارج البلاد، وأشار إلى أنهم رصدوا أخيراً سبع منحوتات جنائزية قادمة من تدمر، وتمت مصادرتها وإضافتها إلى محتويات متحف مدينة إدلب، وهناك فرق تعمل على رصد القطع التي يتم عرضها على شبكة الإنترنت، والتحقّق منها والإبلاغ عنها للجهات المختصة.
وبحسب النابو، فإن أكثر من 10 بالمائة من مجموع الآثار السورية تعرّضت إلى التخريب، وهذا أفقد سورية جزءاً كبيراً من حضارتها، وهذه الخسارة لا تعوّض، على حد قوله، وهي خسارة حضارية واقتصادية لأن المعالم السياحية دائماً ما تكون وسيلة لجلب السياح ورفد الاقتصاد الوطني بمداخيل إضافية.
هناك فرق تعمل على رصد ما يُباع على الإنترنت لاسترداده
بدوره يقول مدير مركز حفظ التراث الثقافي السوري، عبد الرحمن اليحيى، في حديث إلى “العربي الجديد”، إن هناك مواقع أثرية كثيرة تعرّضت للتخريب والسرقة في محافظتي حلب وحماة، كالجامع الأموي في حلب، الذي هدمت مئذنته بالقصف، وأسواق المدينة وحماماتها العريقة، وأبواب المدينة الشهيرة كباب الفرج وباب قنسرين وباب النيرب وباب الحديد.
وفي حماة، استهدفت قوات النظام موقع أفاميا الأثري، الذي يعود إلى الحقبة الرومانية، بالقذائف؛ ما أدى إلى تدمير عدد من الأعمدة الأثرية، كما استهدفت طائرة مروحية ببرميل متفجّر متحفها الذي يحوي مئات القطع الأثرية، ما أدى إلى دمار جزء كبير منها.
وفي درعا، راجت سرقة الآثار والاتجار بها من قبل قوات النظام والمليشيات الرديفة لها، وبخاصة في مدينة بصرى الشام وقلعتها بحسب المتحدث باسم “تجمع أحرار حوران” أبو محمود الحوراني، الذي وثّق أيضاً استهداف الجامع العمري الأثري في مدينة درعا القديمة، وإسقاط مئذنته من قبل قوات النظام، إضافة إلى الجامع العمري في الحراك وجامع عثمان بن عفان في خربة غزالة.
ويشير في حديثه إلى أن كثيراً من هذه الآثار كانت تهرّب نحو الأراضي الأردنية، وسبق أن ألقت قوات الجيش الأردني القبض على مهربين بحوزتهم قطع أثرية، بحسب قوله، وأكّد أن هذه التجارة نشطت في المنطقة بعد انتشار المليشيات الإيرانية في الجنوب السوري، بعد اتفاق التسوية الذي تمّ توقيعه بين النظام والمعارضة عام 2018 برعاية روسية.
وتقول مديرة قسم التقارير في الشبكة السورية لحقوق الإنسانية، سمية الحداد في حديث إلى “العربي الجديد”، إن الشبكة وثّقت منذ عام 2011 أكثر من 400 حادثة اعتداء على المنشآت والمواقع الأثرية، وتمكّنت من التحقق من 97 حادثة اعتداء على 88 منشأة وموقعاً، كان النظام السوري مسؤولاً بشكل مباشر عن 37 حادثة منها، وفي المرتبة الثانية تنظيم “داعش” الإرهابي بـ10 حوادث، تلتهما قوات المعارضة المسلحة بست حوادث، فيما توزعت بقية الحوادث بين حوادث على يد أطراف مجهولة وأخرى لم تتمكن الشبكة من نسبها لطرف ما.
وتشير في حديثها إلى أن عملية توثيق الاعتداءات على هذه المنشآت والمواقع من العمليات بالغة الصعوبة، فمئات المواقع هي غير معروفة لدى الأهالي، وبالتالي هم لا يدركون قيمتها التاريخية وأهمية ما شهدوه من انتهاكات بحقها، كما يصعب الوصول إلى جميع الآثار وتحديد حجم الأضرار التي لحقت بها، وأكّدت أن هناك قسماً كثيراً من الأوابد الأثرية اتخذت مقرّات عسكرية من قبل بعض الأطراف، ما جعلها عرضة للقصف اليوم والاستهداف، إضافة إلى السرقة.
وقالت “جمعية حماية الآثار السورية” التي تتخذ من باريس مقراً لها في تقرير أصدرته عام 2020 إن هناك 55 مؤسسة ثقافية تُعنى بحفظ وعرض الإرث الثقافي السوري المنقول، ومنذ عام 2011، تعرّض 29 منها لأضرار عديدة بسبب العمليات العسكرية إضافة إلى عمليات نهب.
وأضاف التقرير أنه سُرق أكثر من 40 ألفاً و600 قطعة من اللقى الأثرية، وهذا الرقم لا يشمل آلاف القطع غير المسجلة في قوائم ودفاتر 19 متحفاً تعرضت لعمليات نهب وسرقات، ولا يشمل أيضاً عشرات الآلاف من اللقى التي نهبت من المواقع الأثرية السورية من خلال عمليات الحفر العشوائي، كما لا يشمل اللقى الأثرية والتراثية والأعمال الفنية التي تم شحنها بـ 405 صناديق، من قبل وزير الدفاع السابق العماد أول مصطفى طلاس إلى دولة الإمارات.
المصدر: العربي الجديد