التغيير الديمغرافي في عفرين بين الصمت الدولي المريب والمأساة التي لا يتخللها بصيص من الأمل

205

ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لعام 1998 في المواد (8,7,6) على أنّ إبعاد السكان أو النقل القسري لهم، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي يُشكل جريمة بشعة ضدّ الإنسانية.. وتؤكد المنظمات الإنسانية أن أي تهجير للأهالي في غياب أي سبب مقنع أو قاهر هو عمل معاد لكل القوانين الدولية يرتقي إلى مرتبة جرائم الحرب التي وجب التصدّي لها ومحاسبة مرتكبيها، لكن في الحالة التي تعيشها منطقة عفرين التي تقع في أقصى شمال غربي سورية وتتميز بخصوصيتها الكردية تاريخيا، لم تفلح المعاهدات في ردع المحتل وإيقافه انتهاكاته.

“عفرين محتلة” كما يصفها أبناؤها الذين يشكل 95% منهم من الأكراد إلى جانب نسبة صغيرة من العرب الذين قدموا إلي المنطقة هربا من النزاعات أو لأسباب أخرى.

وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد وثّق آلاف وحتى عشرات الآلاف من الانتهاكات في تلك المنطقة منذ احتلالها من قبل القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها، مشيرا إلى ارتكاب كافة أنواع التجاوزات ضد أبناء المنطقة، في مسعى إلى إجبارهم على الرحيل من منازلهم وأراضيهم.

فلم تكتف تركيا بالاحتلال والسيطرة على الأراضي وتهجير الأهالي والسطو على منازلهم وممتلكاتهم وإجبارهم على النزوح القسري إلى المخيمات وبعض الدول المجاورة، بل تعدت ذلك إلى إعلانها الاستيطان عبر إقامة مؤسسات تركية والعمل على فرض اللغة التركية ورفع العلم التركي، وذلك ضمن مخطط إحداث التغيير الديمغرافي في المنطقة المحتلة.

ولطالما اتّهمت الجهاتُ السورية أنقرة بالسعي إلى إحداث التغيير الديمغرافي، الأمر الذي قوبل بالنفي التركي المتكرّر إلا أن ما يجري على أرض الواقع والانتهاكات التي تُمارَس على مرأى من السلطات التركية واستخباراتها وبإشراف مباشر منها وعدم تدخلها لردّ فصائلها أكبر دليل يثبت عملية التغيير الديمغرافي الممنهجة التي تنفذها تركيا والفصائل الموالية لها في عفرين، بهدف إحلال سكان جدد موالين لأنقرة بدلا من السكان الأكراد الأصليين.

وتشير إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان إنه منذ وقوع عفرين تحت سيطرة تركيا، هُجّر أكثر من 300 ألف نسمة من عفرين، عاد منهم خلال السنوات الماضية حوالي 25 ألف، أي هناك -275 ألف- مهجر الآن، مشرَّدين في مناطق النزوح الواقعة تحت سيطرة قوات النظام والقوات الكردية نذكر منها: (بعض قرى جبل ليلون، بلدات نبل والزهراء وديرجمال وتلرفعت، وقرى وبلدات الشهباء…)- شمال حلب، ومنهم من فرّ إلى مدينة حلب ومناطق عين العرب (كوباني) ومناطق نفوذ الإدارة الذاتية شرق الفرات.

ويقول سكرتير حزب الوحدة الديمقراطي الكردي، محي الدين شيخ آلي، في حديث مع المرصد السوري لحقوق الإنسان، إنّه قبيل غزو الجيش التركي وأعوانه من مسلحي المعارضة السورية منطقةَ عفرين في يناير/ كانون الثاني سنة2018، جاهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطاب صريح له بأن الهدف من وراء عملية(غصن الزيتون )الخاصة بمنطقة عفرين هو تحقيق وفرض نسب وأرقام إحصائية لمجموعات يستقدمها لإسكانها في المنطقة، بحيث تكون اللوحة السكانية المبتغاة للنسيج المجتمعي في منطقة عفرين-وفق هندسة سكانية جديدة- تتصدرها نسبة خمسة وستين في المائة تركمان وعرب، جرى جلبهم من خارج منطقة عفرين لتوطينهم فيها بعد أن تم تهجير ما لا يقل عن 300 ألف من سكانها الأصليين الكرد تحت ضغط قصف بري وجوي تركي ظالم.

ويضيف محدثنا: “بذلك تكون تركيا من خلال احتلالها لعفرين وغيرها من المناطق السورية قد أقدمت عن سابق تصميم وإصرار على اختلاق حالة سكانية طارئة يجري تكريسها بمثابة حاضنة وسند لمرتزقتها “الجهاديين” وانتهجت برامج وسياسات التمييز العنصري ضد المكون الكردي في شمالي سورية، وهذا ما يهدد حاضر ومستقبل الوجود الطبيعي للكرد وكذلك مستقبل سورية ويولد الكراهية بين مكونات المجتمع السوري، ويتعارض مع كافة القوانين والأعراف الدولية والإنسانية”.

وبحسب ضيفنا يبقى الخيار الأفضل وشبه الوحيد أمام السوريين بجميع أطيافهم هو التآلف كي تتضافر جهود وطاقات كافة القوى والفعاليات للعمل بكل السبل المشروعة بهدف حمل تركيا على سحب قواتها المحتلة إلى حدودها الدولية، والكف عن سياساتها العدوانية التوسعية ضد الجوار.

بدوره يحذر القيادي بالتيار الوطني السوري، سمير هواش، في حديث مع المرصد، من خطورة التغيير الديمغرافي في عفرين على مستقبل سورية موحدة.

ويرى هواش أنه منذ اليوم الأول لاحتلال عفرين من قبل الجيش التركي والعصابات المتعاونة معه تحت ذريعة حماية الأمن القومي التركي بدأ واضحاُ أنّ تركيا تعمل ضمن منهجية استعمارية استيطانية بعيدة المدى تهدف بالنهاية إلى تحقيق أطماعها المعلنة بالأرض السورية من قبل كل مستويات القيادة التركية.

ويضيف: “لقد أدّت السياسة الوحشية التي انتهجها الجيش المحتل وأعوانه ضد المدنيين إلى موجة تهجير كبيرة في الأيام الأولى للاحتلال كنتيجة لعمليات القتل والترويع التي قامت بها وسياسة طرد الأهالي وسلب الممتلكات وتدمير البنية الاقتصادية للمنطقة وخاصة حرق واقتلاع ملايين الأشجار المثمرة التي تشكل العصب الاقتصادي لها ثم استكملتها بعمليات الخطف والاغتصاب التي تقوم بها بوتائر عالية حتى اليوم وقد بلغ عدد المهجرين أكثر من نصف السكان الأصليين لعفرين ومناطقها ولا يزال نزيف نزوح السكان مستمرا حتى اليوم وليس هناك وسيلة مباشرة أو غير مباشرة إلا وتم استخدامها لتفريغ عفرين من أهلها واستبدالهم بمجموعات تفترض تركيا أن ولاءهم لها مضمون وحتى من غير السوريين كالإيغور والشيشان وغيرهم ضمن عمليات التتريك الإجباري التي طالت كل نواحي الحياة لتغيير هوية المنطقة وتدمير إرثها الحضاري الغني ومصادرة مساحات شاسعة من الأراضي لإقامة مستوطنات بجانب البلدات في تماثل كامل لخطط وممارسات إسرائيل في فلسطين”.

ويتابع السياسي السوري المعارض: “كما تم استخدام المساعدات الإنسانية وأموال الإغاثة وخاصة من قطر كجمعية “البيان” وغيرها لبناء مجمعات سكنية كبيرة، كل ذلك في إطار مخطط خطير يهدف في النهاية إلى تغيير ديمغرافي شامل لتسهيل ضم هذه المنطقة وغيرها من المناطق التي يتكرر بها نفس السيناريو التركي بالضم النهائي استنادا إلى أوهام تاريخية بائدة كميثاق “ملي” وغيره، وتكرر تركيا بذلك السيناريو الذي اعتمد في عملية سلب لواء اسكندرون، ومن هنا يمكن فهم المخاطر الكبرى على وحدة وسيادة ومستقبل سورية التى تشكلها عملية التغيير الديمغرافي التي تقوم بها تركيا في عفرين وغيرها من المناطق السورية المحتلة” .

وفي سؤال المرصد عن كيفية التصدي لسياسات بعض الدول وأبرزها تركيا التي تسعى إلى إحداث هذا التغيير، أجاب هواش: “إن مهمة التصدي لهذا المخطط الاستعماري التركي الخطير ولكل المخططات المشابهة وإفشاله ليست مهمة سكان عفرين وحدهم ولا مهمة المكون الكردي منفرداً بل هو مهمة وطنية سورية تشمل كل سوري يؤمن بوحدة سوريا وسيادتها بغض النظر عن موقفه السياسي أو انتمائه الديني أو العرقي.. إن مقاومة هذا الاحتلال وإفرازاته ونتائجه التدميرية على سورية ومستقبلها لن تنجح إلا إذا قامت على أساس من الوحدة الوطنية تستشعر خطر هذا المشروع وترتقي إلى مستوى التهديد الوجودي الذي يشكله “.

وقال: “يجب أن تشمل المقاومة كل المجالات ومن بينها تنظيم شعبي مسلح لجعل المحتل يدفع فواتير كبيرة ثمناً لاحتلاله، وتقديم كل الدعم للسكان لمساعدتهم في البقاء بمناطقهم والتمسك بأرضهم وبيوتهم لإفشال مخطط التغيير الديمغرافي، وفضح جرائم المحتل ومخططه خاصة في ظل توفر عشرات التقارير الأممية التي توثق جرائمه والتي يقع قسم كبير منها تحت بنود جرائم الحرب المدانة دولياُ.. كما أن دور الدولة السورية يجب أن يكون أساسيا في ذلك ويفترض أن تقوم هي والقوى السياسية والمجتمعية باستنفار دائم لمواجهة الاحتلال والتصدي لما يقوم به والضغط عليه في المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن والهيئات التابعة لها مثل مجلس حقوق الإنسان، واستثمار كل العلاقات والصداقات الدولية في سبيل ذلك وتوثيق كل جرائمه وممارساته الوحشية وتقديمها إلى الرأي العام والطلب منه دعم حق الشعب السوري في أرضه”.

وبحسب محدثنا فإن وحدة السوريين ووعيهم والتوصل إلى حل يؤدي إلى تغيير سياسي جذري وشامل في سورية وإلى قيام دولة المواطنة والقانون وصياغة مشروع وطني سوري جديد يوحّد طاقات السوريين،كل ذلك كفيل بإفشال المخططات التي تريد الإبقاء على الإحتلالات وتقسيم بل وشرذمة سورية.

وفي ردّه على سؤال: “لماذا هذا الصمت الدولي المريب تجاه ما يحدث من سياسات التهجير والتوطين التي تتنافى والمعاهدات الدولية؟ أجاب القيادي بالتيار الوطني السوري: إن “هذا سؤال هام ومنطقي ويفرض نفسه باعتبار أن جرائم الاحتلال وأعوانه- وأخطرها جريمة التهجير الممنهج التي طالت وتطال مئات الوف المدنيين الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ – أصبحت موثقة بتقارير دولية معترف بها من المجتمع الدولي والدول الكبرى، وحتى وسائل الإعلام العالمية من أمريكية وأوروبية وحتى تركية، والتي أصبحت حافلة بهذه الجرائم التي تتعارض مع القوانين والأعراف الدولية وحقوق الإنسان وتصنف كجرائم حرب تفرض على المجتمع الدولي محاسبة مرتكبيها بعد سوقهم إلى العدالة، ومنها اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والبروتوكولات الملحقة بها واتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 لمنع الإبادة الجماعية، والمواد 6و7 و8 من نظام روما الأساسي لعام 1998، وغيرها الكثير من الاتفاقيات والقوانين التي تمنع التهجير وعمليات التغيير الديمغرافي وخاصة في المناطق المحتلة وتفرض على المحتل جملة من الالتزامات والممارسات وكل ذلك يتم انتهاكه والضرب به عرض الحائط من قبل الاحتلال التركي في جو من التواطؤ الدولي الذي يعبر عن نفسه بهذا الصمت المريب.

وختم بالقول: ” الصمت المريب الذي لا يفسره إلا اعتبار البعض أن الأرض السورية والحقوق السورية ومصالح الشعب السوري أصبحت اوراقاً رخيصة في لعبة الأمم وفي بازار المصالح الدولية المفتوح دائماً على حساب الشعوب الضعيفة”.